الأرشيف

المجتمع المصري تحت الحكم العثماني - ميكل ونتر


المجتمع المصري تحت الحكم العثماني - ميكل ونتر
ترجمة : إبراهيم محمد إبراهيم
مراجعة : د . عبد الرحمن عبد الله الشيخ
الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتاب
الطبعة الأولى 2001
450 صفحة




لا يهتم ونتر في دراسته بتاريخ السلاطين والأمراء والقادة العظام ، بل ينصب اهتمامه على تتبع تطور التكوينات الاجتماعية على مدى ثلاثة قرون تقريبا، أي منذ انتصار السلطان سليم العثماني على السلطان المملوكي “قنصوة الغوري” عام 1517م، واستيلائه على مصر، وحتى تولي محمد علي سدة الحكم في أوائل القرن التاسع عشر.
ولعل نظرة سريعة على عناوين فصول الكتاب، توضح ذلك، حيث يخصص على سبيل المثال فصلا لتقلبات الطبقة الحاكمة، وآخر للعلاقة بين العرب والبدو والدولة، وثالث عن علماء الدين، وعن التصوف والمتصوفة، وعن الدين، وأهل الذمة، والحياة والاحتفالات والأمن والجريمة والرذيلة والعقوبة والسجون والحمامات العامة.. إلخ، أي أننا أمام مؤرخ مختلف، اختار أن يدرس ويحلل دور البشر الهامشيين الذين قلما اهتم بهم المؤرخون، واستعان على ذلك بمصادر تعد نادرة بالنسبة لغيره من المؤرخين، وهي المصادر المكتوبة باللغة “العثمنلية” كما سبقت الإشارة كتب ونتر: “أثرت السيطرة العثمانية على مصر ببعض الطرق العميقة جدا وأسهمت بلا وعي في إيجاد كيان مصري، إذ لم يتم أبدا التعبير عن الحكم العثماني بالمعاني التي نجدها أحيانا في كتابة التاريخ الحديث بالروح الوطنية، أي أن المصريين كانوا مقهورين يستغلهم الأتراك، ذلك أن العثمانيين لم يحكموا مصر أو غيرها من المقاطعات كأتراك بما أنهم يعتبرون أنفسهم كذلك، فكانت الإمبراطورية (الدولة العثمانية)، دولة إسلامية، بل أقوى دولة وقوة عالمية رئيسية وكان من الممكن قبولها في مصر كأمر له كامل المشروعية”.

وهكذا فإن المؤلف يمسك بمفصل أساسي في دراسة الدولة العثمانية، فهي لم تكن قوة احتلال بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف، مصر إحدى ولاياتها المهمة، تتمتع مثل غيرها من الولايات بقدر معقول من الحكم شبه الذاتي، إلا أنه مع تدهور وضعف الدولة ومؤسساتها، أمسى الوجود العثماني عبئا على مصر، مما أدى لتعبير المصريين عن كرههم لسوء الحكم العثماني بطريقة مبتكرة أي من خلال الدين، فالإسلام في مصر كان له طابع مصري بسبب الدور المركزي الذي لعبه الأزهر كمؤسسة دينية وفكرية، وما لبثت الصفوة الدينية والقادة الشعبيون (وهم العلماء والمتصوفة والأشراف) أن دخلوا مسرح التاريخ ليلعبوا دورهم المؤثر.

من جانب آخر يعيد مايكل ونتر تقديم مشهد الفتح العثماني لمصر على نحو مؤثر حقاً وكاشف في الوقت نفسه، فالمماليك الذين كانوا يحكمون البلاد تم الإبقاء على قوتهم العسكرية بعد هزيمتهم ودمجهم في الحامية العثمانية، وقبل أن يغادر السلطان سليم العثماني المنتصر كان قد أصدر عفوا عن المماليك وعندما تولى ابنه سليمان القانوني شارك مئات من المماليك كجنود في فتح جزيرة رودس عام ،1522 وبسبب شجاعتهم المعروفة تم قبولهم كجزء من الجيش الإمبراطوري.

وينقل ونتر عن المؤرخ المصري الشهير ابن اياس الذي كان معاصرا للفتح أنه تم إجبار الشعب المصري على جذب المدافع الثقيلة أو شحن أعمدة الحجارة التي يقوم العثمانيون بانتزاعها من القصور، وكذلك ألواح وأعمدة الرخام، ويجري شحنها داخل السفن المتجهة إلى اسطنبول، جنبا إلى جنب مع المئات من الصناع المهرة وعمال البناء وأصحاب الحرف النادرة في أكبر عملية سطو في التاريخ على الحرف والصناعات المصرية.

اللافت للنظر أن مصر “لم تصبح قط مقاطعة عثمانية منتظمة” حسبما قرر ونتر، فلم يطبق فيها النظام الإقطاعي العسكري السائد في الدولة العثمانية، فالعثمانيون كان لديهم الحس البراجماتي والعملي ليدركوا أن طبيعة الاقتصاد المصري الخاصة تقتضي أقل قدر ممكن من التدخل، أما مصادر الدخل الرئيسية فهي ضرائب الأراضي (الخراج)، والجمارك، وضرائب المقاطعات، ويتم الإنفاق منها على الراتب السنوي للباشا الذي يرسله الباب العالي لحكم البلاد وعلى الوحدات العسكرية المرابطة في مصر، وكذلك الإنفاق على الإدارة والجيش والبحرية في اليمن والحبشة والبحر الأحمر وتنظيم قافلة الحج، بينما يتم إرسال باقي هذا الدخل إلى اسطنبول، فضلا عن إرسال كميات أخرى من المنتجات الزراعية سنويا.

وعندما يتناول المؤلف العلاقة بين الدولة والعرب البدو مثلا، تتبدى بجلاء طريقته في البحث الدقيق التفصيلي على نحو لم يتوافر إلا للمؤرخين الذين يسبحون ضد التيار، فهدفهم ليس حكم السلاطين، بل دراسة التكوينات الاجتماعية، وتطوراتها والتغييرات التي تلحق بها، ولأن اعتماد المؤلف أساسا على المصادر العثمانية، حيث توافر له جانب مهم لم يتح للكثيرين في هذا الموضوع بالتحديد.

من بين هذه المصادر كتاب “ذكر الخلفاء والملوك المصرية” لكاتب الحوليات التركي عبدالصمد الديار بكري، الذي كان أحد القضاة المصاحبين للسلطان سليم عند الغزو، ولا تتوقف أهمية ما كتبه على قربه الوثيق من مركز صنع القرار آنذاك، بل لأنه يستمر في تدوينه من حيث انقطع المؤرخ المصري المعاصر للأحداث ابن اياس. كما اعتمد ونتر على مواد الأرشيف والمحفوظات العثمانية التي تتيح أحداثا ووقائع ومراسيم لا غنى عنها في حقيقة الأمر.

على هذا النحو يمضي ونتر متتبعاً ومحللا التكوينات الاجتماعية التي حلت محل التكوينات الاجتماعية التي كانت سائدة ابان حكم المماليك، الذي ساد عدة قرون قبل الغزو العثماني، واللافت للنظر أن مصر حتى في أوقات ضعفها كمجرد ولاية عثمانية تابعة لإمبراطورية مترامية الأطراف، ظلت قادرة على هضم وتمثل المحتلين، وظلت محتفظة بخصوصيتها الثقافية والاجتماعية، صحيح أنها تغيرت هنا وهناك، إلا أنها بقيت في الوقت نفسه ذات ملامح وثوابت تميزها عن غيرها، بسبب وجود الأزهر كمؤسسة ثقافية كبرى لا تفرط في الحد الأدنى من العلوم الدينية والدراسين والعلماء.

وفي كل الأحوال فإن إسهام ونتر في دراسة المجتمع المصري تحت الحكم العثماني، يظل أحد أهم الدراسات وأكثرها دقة واكتمالا على الرغم من أن كاتبها ليس مصريا أو حتى عربيا.

صديقنا القارئ الكريم برجاء شراء الكتاب إن كان بإمكانك حفاظاً على حقوق أصحابه, كما يرجى أيضاً نشره لتعم الفائدة ويسعدنا أن تشاركنا بأفكارك فهي حتماً ستكون خطوة بناءة لنا جميعاً .



رابط التحميل :- 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق